فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فالحلف الصادر منهم حلف على الأعمّ من براءتهم من النفاق والطعن، وجواب السؤال عن أمور خاصّة يُتهمون بها جواب يراد منه أنّ ما صدر منهم ليس من جنس ما يُتّهمون به، فإذا سئلوا عن حديث يجري بينهم يستراب منهم أجابوا بأنّه خوض ولعب، يريدون أنّه استجمام للراحة بين أتعاب السفر لما يحتاجه الكادُّ عملًا شاقًّا من الراحة بالمزح واللعب.
وروي أنّ المقصود من هذه الآية: أنّ ركبًا من المنافقين الذين خرجوا في غزوة تبوك نفاقًا، منهم: وديعةُ بن ثابت العَوْفي، ومخشي بن حُمَيِّر الأشجعي، حليف بني سَلِمة، وقفوا على عَقَبَة في الطريق ينظرون جيش المسلمين فقالوا انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتح حصون الشام هيهات هيهات فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن مناجاتهم فأجابوا «إنّما كنّا نخوض ونلعب».
وعندي أنّ هذا لا يتّجه لأنّ صيغة الشرط مستقبلة فالآية نزلت فيما هو أعمّ، ممّا يسألون عنه في المستقبل، إخبارًا بما سيجيبون، فهم يسألون عمّا يتحدّثون في مجالسهم ونواديهم، التي ذكرها الله تعالى في قوله: {وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون} [البقرة: 14] لأنّهم كانوا كثيري الإنفراد عن مجالس المسلمين.
وحذف متعلّق السؤال لظهوره من قرينة قوله: {إنما كنا نخوض ونلعب}.
والتقدير: ولئن سألتهم عن حديثهم في خلواتهم، أعلم الله رسوله بذلك وفيه شيء من دلائل النبوءة.
ويجوز أن تكون الآية قد نزلت قبل أن يسألهم الرسول، وأنّه لمَّا سألهم بعدها أجابوا بما أخبرت به الآية.
والقصر للتعيين: أي ما تحدثْنا إلاّ في خوض ولعب دون ما ظننته بنا من الطعن والأذى.
والخوض: تقدّم في قوله تعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا} في سورة الأنعام (68).
واللعب تقدّم في قوله: {وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو} في الأنعام (32)، ولمّا كان اللعب يشمل الاستهزاء بالغير جاء الجواب عن اعتذارهم بقوله: {كنتم تستهزءون} فلمّا كان اعتذارهم مبهمًا ردّ عليهم ذلك إذ أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم جواب الموقن بحالهم بعد أن أعلمه بما سيعتذرون به فقال لهم {أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون}، على نحو قوله تعالى: {فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة} [الإسراء: 51].
والاستفهام إنكاري توبيخي.
وتقديم المعمول وهو {أبالله} على فعله العامل فيه لقصد قصر التعيين لأنّهم لما أتوا في اعتذارهم بصيغة قصر تعيين جيء في الردّ عليهم بصيغة قصر تعيين لإبطال مغالطتهم في الجواب، فاعلمهم بأنّ لعبهم الذي اعترفوا به ما كان إلاّ استهزاء بالله وآياته ورسوله لا بغير أولئك، فقصْر الاستهزاء على تعلّقه بمن ذكر اقتضى أنّ الاستهزاء واقع لا محالة لأنّ القصر قيد في الخبر الفعلي، فيقتضي وقوعَ الفعل، على ما قرّره عبد القاهر في معنى القصر الواقع في قول القائل: أنَا سعيتُ في حاجتك وأنّه يؤكّد بنحو: وحدي، أوْ لا غيري، وأنّه يقتضي وقوع الفعل فلا يقال: ما أنا قلت هذا ولا غيري، أي ولا يقال: أنا سعيت في حاجتك وغيري، وكذلك هنا لا يصحّ أن يفهم أبالله كنتم تستهزِئون أم لَمْ تكونوا مستهزئين.
والاستهزاء بالله وبآياته إلزام لهم: لأنّهم استهزأوا برسوله وبدينه، فلزمهم الاستهزاء بالذي أرسله بآيات صدقه. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)}
وإن سألتهم يا رسول الله: ها تناولتم الإسلام بسوء أو عيب في مجالسكم، فسوف يقولون: كان هذا قد حدث فهو مجرد خوض ولعب، وكلام مجالس لا قيمة له.
والخوض أن تُدخِلَ نفسك في سائل، مثل الذي يخوض في الماء أو يخوض في الطينَ، وقد أطلق على كلِّ خوض، ثم اقتصر على الخوض في الباطل، أي: أن المسائلة لم تكن جدية بل كانت مجرد تسلية ولعب.
ويقول الله لرسوله: {قُلْ أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ} أي: إذا قالوا لك: إن هذا حديث تسلية ولعب؛ فاللعب هو أمر لا فائدة منه إلا قتل الوقت، أليس عندكم إلا الاستهزاء بآيات الله ورسوله وأحكام الإسلام تقتلون به الوقت؟ فهل هذه المسائل خوض ولعب؟. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)}
أخرج أبو نعيم في الحلية عن شريح بن عبيد رضي الله عنه. أن رجلًا قال لأبي الدرداء رضي الله عنه: يا معشر القراء ما بالكم أجبن منا وأبخل إذا سئلتم، وأعظم لقمًا إذا أكلتم؟ فأعرض عنه أبو الدرداء ولم يرد عليه شيئًا، فأخبر بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فانطلق عمر إلى الرجل الذي قال ذلك، فقاله بثوبه وخنقه وقاده إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرجل: إنما كنا نخوض ونلعب. فأوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب}.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبد الله بن عمر قال قال رجل في غزوة تبوك في مجلس يومًا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، لا أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنة، ولا أجبن عند اللقاء.! فقال رجل في المجلس: كذبت، ولكنك منافق. لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن.
قال عبد الله: فأنا رأيته متعلقًا يحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم والحجارة تنكيه وهو يقول: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والعقيلي في الضعفاء وأبو الشيخ وابن مردويه والخطيب في رواة مالك عن ابن عمر قال رأيت عبد الله بن أبي وهو يشتد قدام النبي صلى الله عليه وسلم والأحجار تنكيه، وهو يقول: يا محمد إنما كنا نخوض ونلعب، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب} قال: قال رجل من المنافقين يحدثنا محمد: أن ناقة فلان بوادي كذا وكذا في يوم كذا وكذا، وما يدريه بالغيب؟.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوته إلى تبوك وبين يديه أناس من المنافقين، فقالوا: يرجو هذا الرجل أن تفتح له قصور الشام وحصونها؟ هيهات هيهات...! فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فقال نبي صلى الله عليه وسلم: «احسبوا عليَّ هؤلاء الركب». فأتاهم فقال: قلتم كذا قلتم كذا.
قالوا: يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله فيهما ما تسمعون.
وأخرج الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سعيد بن جبير قال بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مسيره وأناس من المنافقين يسيرون أمامه، فقالوا: إن كان ما يقول محمد حقًا فلنحن أشر من الحمير.
فأنزل الله تعالى ما قالوا، فأرسل إليهم. ما كنتم تقولون؟ فقالوا: إنما كنا نخوض ونلعب.
وأخرج ابن إسحق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن كعب بن مالك قال قال محشي بن حمير: لوددت أني أقاضي على أن يضرب كل رجل منكم مائة على أن ينجو من أن ينزل فينا قرآن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر «أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا، فإن هم أنكروا وكتموا فقل بلى قد قلتم كذا وكذا»، فأدركهم فقال لهم. فجاءوا يعتذرون، فأنزل الله: {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم} الآية. فكان الذي عفا الله عنه محشي بن حمير، فتسمى عبد الرحمن وسأل الله أن يقتل شهيدًا لا يعلم بمقتله. فقتل باليمامة لا يعلم مقتله، ولا من قتله، ولا يرى له أثر ولا عين.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في رهط من المنافقين من بني عمرو بن عوف، فيهم وديعة بن ثابت ورجل من أشجع حليف لهم يقال له محشي بن حمير، كانوا يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم؟ والله لكأنا بكم غدًا تقادون في الحبال.
قال محشي بن حمير: لوددت أني أقاضي. فذكر الحديث مثل الذي قبله.
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود. نحوه.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وأبو الشيخ عن الكلبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقبل من غزوة تبوك وبين يديه ثلاثة رهط استهزأوا بالله وبرسوله وبالقرآن، قال: كان رجل منهم لم يمالئهم في الحديث يسير مجانبًا لهم يقال له يزيد بن وديعة، فنزلت {إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة} فسمي طائفة وهو واحد.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة} قال: الطائفة الرجل والنفر.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: الطائفة الواحد إلى الألف.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال: الطائفة رجل فصاعدًا.
وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك {إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة} يعني أنه إن عفى بعضهم فليس بتارك الآخرين أن يعذبهم {بأنهم كانوا مجرمين}.
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: كان فيمن تخلف بالمدينة من المنافقين وداعة بن ثابت أحد بني عمرو بن عوف، فقيل له: ما خلفك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: الخوض واللعب. فأنزل الله فيه وفي أصحابه {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب} إلى قوله: {مجرمين}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)}
قوله تعالى: {أبالله}: متعلقٌ بقوله: {تستهزئون} و{تستهزئون} خبرُ كان. وفيه دليلٌ على تقديم خبر كان عليها، لأنَّ تقديمَ المعمول يُؤْذِن بتقديم العامل، وقد تقدم معمول الخبر على كان فَلْيَجُزْ تقديمُه بطريق الأولى. وفيه بحث: وذلك أن ابنَ مالك قَدَح في هذا الدليلِ بقوله تعالى: {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السائل فَلاَ تَنْهَرْ} [الضحى: 9-10] قال: فاليتيم والسائل قد تَقَدَّما على {لا} الناهية والعاملُ فيهما ما بعدها، ولا يجوز تقديم ما بعد {لا} الناهية عليها لكونه مجزومًا بها، فقد تقدَّم المعمولُ حيث لا يتقدَّم العامل. ذكر ذلك عند استدلالهم على جواز تقديم خبر ليس بقوله: {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} [هود: 8].
والاعتذار: التنصُّل مِنَ الذنب وأصله مِنْ تعذَّرت المنازل أي: دُرِسَت وامحى أثرها، قال ابن أحمر:
قد كنتَ تعرف آياتٍ فقد جعلَتْ ** أطلالُ إلفِك بالوَعْساء تعتذِرُ

فالمعتذر يزاول محو ذنبه. وقيل: أصله من العَذْر وهو القطع، ومنه العُذْرة لأنها تُقْطع بالافتراع.
قال ابن الأعرابي: يقولون: اعتذرت المياه أي: انقطعت، وكأن المعتذر يحاول قطع الذمّ عنه. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)}
مَنْ استَهانَ بالدِّين، ولم يَحْتَشِمْ مِنْ تَرْكِ حُرْمةِ الإسلام جعله الله في الحال نكالًا، وسامَه في الآخرة صِغَرًا وإذلالًا، والحقُّ سبحانه لا يرضى دون أن يذيق العُتَاةَ بَأْسَه، ويَسْقِيَ كُلًا- على ما يستوجبه- كأسَه. اهـ.